نضجت تربويًّا حينما تعمقت في دراستها- النظرية البنائية- وتشبّعت بمبادئها التربوية، قدمت فيها دورات تدريبية عديدة وكتبت عنها الكثير وروجت لها.

وزاد يقيني بها بعد مقارناتها بالنظرية السلوكية والتي تربّعت على قمة التربويات لسنوات طويلة، فأنا من الجيل الذي درس بالسلوكية وتربّى على قوانينها وطبقتها لسنوات في بداية حياتي المهنية والبحثية.

وما زلت أذكر قراءتي فيها وكيف ارتكز على المتعلم بفرديته واستجاباته في التعلم القائم على النتائج، والمرتبط بالسلوك الإجرائي الموجه الذي كان يعتقد أنه يستقر بالدعم والتعزيز، ما زلت أذكر الاشتراط الكلاسيكي التقليدي مع “بافلوف” وتجربته مع صوت رنين الجرس والألعاب، والاشتراط الإجرائي مع “سكينر” حين أسس المدرسة السلوكية المتطرفة وبدأ تجاربه مع التعزيز الإيجابي والسلبي والعقاب، أذكر كذلك مبدأ المحاولة والخطأ لـ”ثورندايك” أو الانتقاء والربط، أو الاشتراط الذرائعي أو الوسيلي.

أذكر عندما جلست لشهور أبحر في تلك المبادئ التي بقت في وجدان التربويين لسنوات طويلة ؛ ولكنها لم تنتج إلا أفرادًا اعتمدت التلقين ونظرت للعقول أنها حاويات للمعرفة، فضلا أنها عممت سلوك الحيوانات على البشر في تجاربها المختلفة كما لو كان كلاهما له نفس الخصائص السيكولوجية والنمائية، وارتأت أن البيئة هي التي تشكل السلوك الإنساني وتعمقه، كل هذا وأكثر شكل رفضًا لدى “جان بياجيه Jean Piaget” أحد أمهر رواد علم النفس التكويني عندما بحث في السلوك الطفولي وأكد أن البيئة والمثيرات من حولها لا تبرمج سلوك وعقل المتعلم.

ولكنه نتاج تفاعلات بين المتعلم وعالمه المحيط في نسق تبادلي يدعم التطور العقلي ويحسن فرص التعلم، في محورين: البنية العقلية (عمليات التفكير لدى المتعلم وآليات تطوره)، ووظائف العقل: ( العمليات التي ينظمها المتعلم أثناء تفاعله مع مثيرات البيئة من حوله) .

ومن هنا أسس “جان بياجيه” أطر الإبيستيمولوجيا المعرفية ونقل المعرفة من العقول إلى المعامل وخرجت النظرية البنائية إلى عوالم التربية، وانتجت أفضل نظم التعليم والتعلم واستراتيجياته على الإطلاق.

وبدأ التربويين يروجون لها ولمبدأيها والتي من أهمها: أن التعلم ينبغي أن يتحول من الحفظ إلى المعنى، بحيث يرتبط بالبناء المعرفي بصورة سلسلة ومنطقية، وأنه يتطور حينما يكون المتعلم محاطًا بوسط اجتماعي متآلف ينخرط فيه ويفكر معه بأدوات معرفية دقيقة، وأن البنية المعرفية للمتعلم تتضرر عندما نقدم له المعرفة بطريقة نمطية، وأن التعلم يحدث أروع عندما ينطلق بما لدى المتعلم، وأن البيئة تشكل وعيًا معرفيًّا للتعلم بواسطة التطور النمائي لدى المتعلم.

وأن المعرفة تتشكل في العقل وتستقر في بنيته المعرفية بالاستنتاجات وربطها بالمخططات العقلية، وأن البناء المفاهيمي أساس الفهم، والمعرفة لا تتطور بالتلقين قدر ما تتشكل بالتجريب والبحث والنقد والتفسير وحل المشكلات، وأن ثمة علاقة قوية بين البناء المعرفي الجديد والمستقر في بنية المتعلم المعرفية المدخلة.

مبادئ عظيمة شكلت مادة بحثية حديثة حالة فهمها وتطبيقها بصورة صحيحة، خاصة أنها متشابكة ومتداخلة بصورة بالغة التعقيد؛ لذا لا ينبغي أن نطبقها أو نستحدث مسميات لها دون إدراجها تحت مضامينها التربوية الأصيلة.

كما أننا يجب ألا نروج لممارسات تربوية خاطئة في غياب الوعي التربوي المؤسسي، بل يجب أن نُعدّ جيلا من التربويين يعتمد في تكوينه المهني على دراسات أكاديمية محكمة ليست في البنائية فحسب بل في مختلف الفنون التربوية؛ تكوين يسهم في نقل الخبرات بطريقة صحيحة دون اضطراب أو عبث، معتمدًا على قراءات تربوية موجهه تكون ضمن برامج الترقي للوظائف التعليمية المختلفة، ومقوم أساسي في اعتماد الرخص المهنية للمعلمين والتي ينبغي أن تمنح ضمن إجراءات تربوية صارمة خلال سنوات خبرات المعلمين المختلفة؛ خاصة أنهم يشكلون وعي الأمم وعقول أبنائها.